وقعة كربلاء نعمة لا نقمة

النعمة الحقيقية: ورد في سورة الفاتحة قوله تعالى " صراط الذين أنعمت عليهم" التي تتكرر في كل يوم عشر مرات على الأقل، وكلمة "أَنْعَمْتَ" تفيد معنى ينطبق على جميع الأمور التي تعني الإنسان من صحة أو مال أو قدرة، أو جاه أو هداية أو علم، أو أمن أو أي شيء آخر يسهم في إسعاد الإنسان، ويمكن له أن يحصل عليه. وهذا نوع آخر من الترغيب والتحفيز للسير على ذلك الصراط.

وقد يظن البعض أن الذين أنعم الله عليهم، قد تسببت لهم نفس تلك النعمة بالنقمات، فقد أوذي الأنبياء، وقتل الحسين بن علي عليه السلام في كربلاء بصورة مفجعة، وقال علي عليه السلام لأهل العراق: "لقد ملأتم قلبي قيحاً ".[1]

وبناء على هذا، كيف نفسر قوله تعالى: "فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ " ؟.[2]

حيث عُد الشهداء في جملة من أُنعم عليهم، مع أنهم يواجهون الحتوف بحد السيوف، مع ما يصاحب ذلك من آلام ومشقات وأهوال ومحن.

هذا بالإضافة إلى الأنبياء الذين يواجهون المصائب والبلايا، والعظائم والرزايا.

فعلى هذا التصور، لا يتناسب نسبة النعمة لهم، بل ذلك نقمة، لأنه ليس إحساناً وتكريماً إلهياً، فكان المناسب أن يقول: صراط الذين أتعبتهم وأشقيتهم بالمصائب في سبيل هذا الدين.

النعمة الحقيقية

والجواب: صحيح أن النعمة هي الشيء الحاصل للإنسان على سبيل الإفضال والتكريم من الله تعالى، ولكن المهم هو معرفة المفردات التي تتجسد فيها النعمة.

فهل تتجسد النعمة بالمال أو بالسلطة أو بالجاه أو بالمنصب أو بالقوة الجسدية أو بالجمال أو بالعرق؟

أما المال فقد يشعر الانسان بالطمأنينة والسعادة والراحة النفسية، ولكن هذه الطمأنينة والراحة والسعادة، تبقى محدودة بحدود، ومقيدة بقيود لا تتجاوز قيمة المال نفسه.

وبعبارة أخرى: إذا مرض الانسان فقد يستفيد من ماله لدخول أرقى المستشفيات، واستخدام أحدث الأجهزة، والاستفادة من خبرات أمهر الأطباء، ولكن هل هذا هو كل شيء، وهل حصل على الطمأنينة وعلى السعادة بأعلى مراتبها؟ وهل زال هاجس الخوف على حياته بصورة نهائية؟

إن المال يماشي الانسان ويصل معه إلى حد معين، ثم يقف عند ذلك الحد، وكذلك الجاه، والسلطة.

وبعد ذلك - وهنا المرحلة الأخطر والأهم - لا بد أن يبحث من جديد عن السعادة والطمأنينة الحقيقية في غير ذلك كله، ليجدها متمثلة في رضى الله سبحانه، وفي الإيمان والسكون بذكره كما قال تعالى: " يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ".[3]

وقال سبحانه: " أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ".[4]

ولأجل ذلك يكون الشهداء سعداء، والأنبياء والصالحون والأولياء سعداء، وفي نعمة حقيقية، هم في نعمة وفي سعادة حتى وهم يتألمون ويواجهون المحن والبلايا ويستشهدون وتأكل السيوف أجسادهم.

وهنا يظهر السر في قول مسلم بن عوسجة، أو سعيد بن عبد الله الحنفي للإمام الحسين عليه السلام في كربلاء: لو علمت أني أقتل فيك ثم أحيا، ثم أحرق حياً، ثم أذرى، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك.[5]

وفي قول علي عليه السلام: والله، لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه.[6]

وحين ضرب عليه السلام بسيف ابن ملجم لعنه الله قال: فزت ورب الكعبة.[7]

وحين قال ابن زياد لزينب عليها السلام: كيف رأيتِ فعل الله بأهل بيتك؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً.[8]

وسأل الحسين عليه السلام القاسم ابن الحسن عليه السلام: يا بني، كيف الموت عندك؟ قال: يا عم، أحلى من العسل.[9]

فالنعمة الحقيقية اذن هي هذه، أما المال والجمال والقوة وسوى ذلك فلن يستطيع أن يمنح الانسان هذه السعادة التي قد يجدها الفقير المعدم، ويفقدها الغني بماله، بل إن أفقر الناس هم الأغنياء.

لذا صح التعبير عن الشهداء والأولياء ب‍ " أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " لما يجدونه من نعمة حقيقية دافعة للإستزادة.

المصادر:

[1] . شرح نهج البلاغة، محمد عبدة، الخطبة رقم 26، ج1، ص66.

[2] . سورة النساء، الآية 69.

[3] . سورة الفجر، الآية 27-28.

[4] . سورة الرعد، الآية 28.

[5] . مقتل الحسين، عبد الرزاق المقرم ص 256.

[6] . شرح نهج البلاغة، محمد عبدة، ج1، ص41.

[7] . ينابيع المودة، سليمان القندوزي، ص65.

[8] . نفس المهموم، الشيخ عباس القمي، ص371.

[9] . المصدر، ص208.